رحلة العمر

 أميرة العمري قاضية، كاتبة وباحثة في العلوم السياسية- تونس
 
أسرعت الخطى لللحاق بقطار بدأ يتحرك مسرعا على غير المعتاد..لكأنه ينوي سائقه تركي على رصيف الذكريات..ركضت..و أنا أخال أني لن أصعد فيه ..لكن عليّ المحاولة قبل الإستسلام..حاولت مسك الباب..لكن يدي تنزلق في كل مرة حد الإدماء...لم أشعر إلا بقبضة يد تجرني نحوها ، بقوة..لأندفع ، بجسدي ، داخل القطار..و ألمح ، بروحي ، أني وجها لوجه مع الأقدار....
هرولت شاكرة إلى مقعدي..هذه المرة كنت أريد الجلوس بقرب النافذة لأصدق أني على متن هذا القطار..مع هذا الكائن الغريب العجيب..الذي في لمح البصر خطفني من مكاني ...إليه...
كنت أريد أن أتحسس مقعدي..فقد ظننت أني لن أكمل المسير...
كانت نبضات قلبي تتسارع..لا تهدأ..و كانت أنفاسي تتأجج..و لا تذبل..كأني كنت مستلقية على بنك الإنتظار..و ركبت للتو في أرجوحة..تتراجع دهرا..لتنطلق بكل الطاقة الكامنة في..و تدفعني لأعالي السماوات...
نظرت أخيرا ، على مهل ، لوجه ذلك الرجل الواقف أمامي..في ثبات..بقدمين متسمرتين..لا تنحنيان رغم سرعة القطار الجنونية..بشموخ و علياء..كأنه هرم ثابت لا تأثير للجاذبية و لا لكل القوى اللامرئية فيه..
نظرت له في فضول حاولت إخفاءه..و في خجل إستبسلت في مواراته..و قلت له في تلعثم " شكرا ......" و اُختنق صوتي..و شعرت بالنار تلتهم وجنتي و أذني..و ببرودة تسري في أناملي..و بضيق تنفس مباغت..فاُكتفيت باُبتسامة خاطفة..ختمت بها لباقتي التي حاولت إظهارها..و طبعا فشلت في ذلك...فشلا ذريعا...
إلتفتُّ إلى النافذة..ماذا كنت أفعل بحقّ السماء..المؤكد أنه يتمتم " يا لها من حمقاء ! ما الذي دهاني حتى أمد يدي لاُمرأة خرقاء !!!!.."
لم أحاول الإلتفات إليه..فهو وقح..لم يجبني حتى..أو هو متكبّر سخيف..أقصى بطولاته هو مدّ يده للنساء..يلتقطهنّ من حافة النسيان و من أرصفة المحطات..ليرميهن..عددا..في حرملك يخال نفسه سلطانا عليه...
" هكذا هم الرجال..مجرد كائنات غريبة..يخالون أنهم النوع الفريد..المقدس على هذه الأرض..." ، هكذا كنت أردّد في اُمتعاض صامت..أو هكذا كنت أخفف وطأة الوخزة التي أحسستها في قلبي لما جذبني إليه بقوة و جرأة و شجاعة و حنو..كنت ، حقيقة ، أحاول تجاهلها و تقزيم ذلك الشعور الذي تدفق في ، على حين غفلة مني و مني القدر ، لرجل غريب متعال...
- " أتسافرين دائما ؟ "
رفعت رأسي الذي حشوته بين أضلعي..و اُنتفضت ملأ روحي..حاولت التماسك..فقد كان هو..من إنتشلني من رصيف العبور..
- " للضرورة.."
ما هذا الجواب الغبي المقتضب..فشلت مرة أخرى..لساني خانني..و كلماتي التي كنت أبدع في ترصيفها بتناسق خذلتني... 
إكتفى بالإبتسام..أمعنت النظر في ثانية إلى تلك الإبتسامة..كانت إبتسامة مجاملة نوعا ما..منكمشة إلى حد بعيد..بلا ملامح..
ما هذا يا الله !! للمرة الثانية أفشل في التواصل معه..لقد بدا جوابي صدّا صريحا له..سينسحب أكيد.. و الحقيقة له كل الحق في ذلك..
كانت الدقائق التي تلي جوابي عصرا بحاله..دهرا..و كما الطفلة المتلعثمة التي نالت صفرا في اُختبارها الشفاهي..غرست رأسي في الزجاج..فهو أرحم علي من نفسي التي تاهت عني...
صمت عميق..كنت أسمعه..و كانت نبضاتي كما عقارب الساعة تدق دقات مدوية...
- " يعني لم تسافري للسياحة..فقط للعمل ؟ "
توقفي رجاءا..تنفسي..هذه فرصتك الثالثة..هو يحاول محادثتك..أرجوك لا تفسدي الأمر..فكري..ما هو الجواب الأمثل لمثل هذا السؤال المعقّد ؟؟؟
ركّزي..و لا تتسرعي..إختاري طريقة جميلة ، جمال وجوده ، للجواب..
- " بلى...سافرت مرة يتيمة للسياحة..." 
هيّا واصلي ، تمسكي بحبل المحادثة...
" عملي يستوجب أن أتنقل عبر القطار لأصل له..المسافة من منزلي لمكان عملي بعيدة نسبيا..لذلك معظم الوقت أكون موجودة في القطار..." ، تنفسي بعمق و أكملي ..رجاءا...
" أغادر منزلي باكرا..و لا أعود له إلا متأخرا...لكن الحمد لله ، على الأقل لدي عمل أحبه..و تلك نعمة قد أحسد عليها في زمننا هذا ..."
لا أصدّق ما قلته..ما هذا الهراء ؟؟؟ أحسد على عملي..و معظم الوقت أكون موجودة في القطار !!!! لا أصدق أني تفوّهت بكل تلك الطرّهات...
هو لم يعلّق..لم يسألني حتى ما أعمل ؟ أين سافرت كسائحة ؟؟ سأكتفي بهذا القدر من الإهانات لنفسي..فأنا ناضجة منذ الأزل و لا يليق بي هذا التصرف..
و ماذا يعني إن ساعدك ؟ يعترضك يوميا المئات و العشرات اللذين يكسرون قاعدة البرود الإجتماعي و يساعدونك في أمر ما...
و ماذا يعني إن سألك ؟ يبدو أنه معتاد على محادثة العابرات من النساء..طبعا بعد مد يده لهنّ !!! 
و ماذا يعني إن أحسست بوخز في قلبك الصغير ؟ و إن شعرت أنك تعرفينه منذ آلاف السنين ؟ هذا لا يعني أن تكلميه و تحادثيه في غباء و تثرثري كالحمقاء !!! 
لحظة...هل ثرثرتُ فعلا ؟؟؟ هذا إن كانت الثرثرة تعني بضع كلمات..غير منمّقة..غير مرتبة ..و ربما غير مفهومة..
مضى القطار يطوي بعجلاته الضخمة المهترئة إهتراء روحي سكة الحديد التي كانت بأنيابها الحادة تمزق شرايين القلب الرقيقة رقته..و رجعت أنا أناجي من خلف نافذتي..أطيافي..و أستحضر قصصا قرأتها..و أخرى بلغت إلى مسامعي..و نسيت لوهلة ذلك الرجل المستفزّ أمامي..فما هميّ به و هو لا يمكن إلا أن يكون عابر سبيل سينزل أولى محطة تعترضنا!!
إنتهى الدّوام الرتيب..وعدت إلى منزلي..فقيرة من كل شيء إلا من الضجر والقلق الذي لا أفهمه ولا أقوى على مقاومته أو حتى تضليله برهة من الزمن..
عدت إلى ذلك المنزل الواسع الضيّق أجرّ أطياف الخيبات ، كجندي مخلص خسر المعركة لسبب لم يفقهه و يدركه..
لكني ، ورغم القنوط الرهيب ، كنت كل صباح أمنّي النفس بمعجزة ما..كان إيماني بأني سأحظى بشيء مميز أثناء مروري القصير بهذا العالم لا يفارقني..أأكون مجنونة و لا أعلم ؟ فأنا أسمع أن المجانين لا يدركون مرضهم و يتوهمون أنهم العقلاء..لكن لحظة ، هل أن الجنون مرض ؟ ربما هو شفاء من مرض التعقّل..من داء الحكمة المقيت..فالحياة تأبى معانقة العقلاء..نعم هي ترثيهم بعد وفاتهم..و تنصب لهم الحجارة ذكرى..صدقا أظن أنها حينها تسخر منهم..بل هي تريدهم عبرة لمن يعتبر..و نحن لطالما ظننا غباءا منا أنها تكرمهم..لذا كثرت الأنصبة التذكارية.. و لم نقف بعد على كنه الدرس..
نزعت ثيابي كمن يتحرر من أغلال الدين و الحرية في آن..فثيابنا ستر لعوراتنا..حشمة و حياء..ها أنا الآن ، لوحدي ، أكشف ، لا عوراتي ، بل أعوار روحي المتعبة التي تجاهد لتبين صلبة قوية..فما همي بجسد مستور و روح عارية من الأمان و الستر ؟؟
ها أنا أرمي ثيابي عرض الحائط..تلك التي تعكس ، ربما ، خطوط الموضة و تبرهن أناقة المرأة و توهججها و تحررها من سواد العباءات..
لكن ما حاجتي بتلك الأزياء الجميلة..التي لم تقدر أن تجمّل ما تشوه في ؟؟
ما همي ببهرج الشكل و أقمشة الساتان و الدانتيل لم تزين بواطني التي تراكمت في ثناياها نفايات البشر ؟؟
ما جدوى أناقة مزيفة..منقوصة..فداخلي يصرخ   بكلام غير منمّق أمام بشر إمتهنوا الدعارة الفكرية ؟؟
هرولت لأستحمّ..لأتطهر من بقايا قذارة لصقت بي في غفلة مني..ربما..أو بإرادتي..أو لضعف في ...
تمددت في فراشي أتأمل الفراغ الممتلئ بصور ..بوجوه..بأحداث غير ذات دلالة ..و غفوت أخيرا...
 
إنها الساعة السادسة صباحا..أختار دوما النهوض و حتى الإكتفاء بفتح عيني مع الساعة السادسة صباحا.لا لشيء إلا لأنني أحب الرقم ستة..و لا أعلم السبب..هو رقم حظ..هكذا نصّبته..رغم أني لم أقف بعدُ وجها لوجه مع الحظ..رغم عدم حصول شيء مميّز لا في اليوم السادس و لا مع الساعة السادسة..لكني أحب رقم ستة..
لذا كنت أختار الإستيقاظ في الساعة السادسة..لإيماني بأن أنامل القدر تدغدغ وجنتي حينها لألتحق بركب ما..هو في انتظاري زمنا ما..
أسرعت أحتسي كوب قهوتي السمراء..التي أذوب في عشقها..و أرتوي من غرامها..فثغرها هو ذلك الكوب المستدير إستدارة القمر..أقبله في خشوع..لأُسقى من رحيق الحياة..و تنتفض شراييني بعد سبات..و تتوهج عيناي نورا ناريا..
لحظات مداعبة سمرائي..هو لذتي الصامتة..الممتدة امتداد أنفاسي..
خرجت أخيرا..من ملجأي الآمن..و بقيت أنتظر على رصيف العمر..قطار الحياة..
تأخر اليوم على غير المعتاد..مضت حوالي عشر دقائق..و لم أسمع صافرته الرهيبة تنذر أو لنقل تبشّر بقدومه..إنكمشت شفتاي و أنا أنظر إلى ساعتي الدائرية..كم أمقت عقاربها ..فهي تلتهم عمري باستفزاز رهيب..
" لا تقلقي..سيأتي قريبا..يحدث هذا غالبا..."
إلتفت كامل قلبي إلى المتحدث..كان هو..صاحب اليد الطويلة..منقذ السيدات..
" سأتأخر هكذا على العمل.."
أجبته كمن أتقنت الآن الأجوبة..كمن إعتادت محادثته..كمن تشكي له وجعا و مخاوف سنين..كمن تفضفض عن مشاعر مختنقة..كمن تبوح بأسرارها دفعة واحدة..
" لا ترتبكي..ستصلين..أين مكان عملك ؟ "
أحببت للحظة نبرة الثبات والطمأنينة في صوته..أحببت حضوره المباغت..العنيد...وهممت بالجواب غير أن الدويّ المباغت لصافرة القطار جعلني أبتلع بضع كلمات كادت أن تتحرر مني.... 
(يتبع..)
 
 
 
 
 
 

اضغط على زر ESC للالغاء